جنوبيون في المنفى

[ابو محمود]

بسم الله الرحمن الرحيم
جنوبيون في المنفى
عندما اضطررت قبل سنتين من السفر الى قريتي والمكوث هناك لمدة شهرين كانت وكأنها قرنين من الزمن، فراق عدن ليس بالأمر الهين وبرغم كنت بين كل أقاربي الطيبين جدا الذين حاولوا أن يخففوا عني وليتهم يستطيعون ، وكنت بوسط سهرتنا وضحكنا أقول لهم تخيلوا معي كيف ستكون فرحة ليلة عودتي الى عدن ، لا أعتقد باني سأنام ، ومتى يا ترى ستحين ساعة الرجوع وألملم ملابسي ، أقسم بالله كانت هناك مشاعر غريبة تنتابني لم اشعر بها من قبل ، كنت اشتاق لعدن كاشتياق الأم لوليدها وكاشتياق الصحراء لحبات المطر وكاشتياق المجروح لنعمة النسيان ، كان شوقي لها ولكل ما فيها من ضحك و زعل وفرح وحزن لشوارعها لمبانيها لشواطئها لقاطنيها كان اشتياقي لكل شيء فيها ساكن أو متحرك ، كانت شهرين أتذكرها بكل تفاصيلها ، ويوم عودتي كان يوم عيد وصلت في المساء ومن على بعد عشرات الأمتار كانت تتلألأ بإنارتها ، بهية وكأنها تزينت خصيصا لي لوفائي لها ، وتنفست الصعداء وقلت ( كل شي معقول الا فراقك يا عدن ) ، وكانت تلك آخر مرة أسافر فيها خارجها .
أن ما جعلني أتذكر تلك اللحظات هو التفكير باللذين تركوا عدن ليس لشهرين فقط وإنما لعقد ونصف من الزمن ويزيد ، تم تهميشهم واعتبار قضيتهم قضية أمن دولة لأنهم قالوا لعلي كفى . حُرموا من عدن واستوطن الأغراب موطنهم ، باعوا أراضيهم احتلوا منازلهم ، محوا كل ذكرياتهم في الطفولة والشباب ، هجروهم من أوطانهم مثلما فعل اليهود عند احتلال فلسطين ، أصبح كل شيء لهم هو غنيمة حرب ويجوز تقسيمها ، تم استقدام موظفين من الشمال ليحلوا محل وظائفهم الحكومية في عدن ، وكل شيء ممكن يهون ويتحملوه ولكن حياة التشرد وأن تكون عالة على مجتمع أجنبي غريب تم فرضه عليك هي قمة القهر ، قمة القهر عندما تجد نفسك وسط ناس حتى لا يعرفون لغتك ، قمة القهر عندما تجد نفسك في الغربة وليس حولك أهلك يسلوك مثلما فعلوا معي ، قمة القهر عندما تجد نفسك صفر ويجب أن تبدأ من جديد قمة القهر عندما لا تحلم بليلة عودتك الى عدن لأن مجرد الحلم سيكلفك حياتك ، وضعت نفسي مكانهم وسبقتني الدموع وألجم لساني من الحسرة على شباب هُرموا من أجل لحظة تاريخيه تعيدهم الى عدن ، منهم من استطاع أن يلملم بعض شتاته بسفر أهله إليه وأصبحت العائلة كلها خارج الوطن لتخفف بعض الحزن على أبنائها ومنهم من لم يستطع فأصبحت جدران الوحدة تضيق عليه يوميا حتى يكاد يختنق ، ومنهم من وصله نبأ وفاة أقرب الناس إليه في أرض الوطن ولا يوجد من يواسيه ويخفف عنه مصابه الأليم ولم يتلقى كلمة عزاء من الأغراب حوله ، يبكي بصوت لا يسمعه سواه ، قمة القهر أن يُقهر رجل فقد تعوذ الرسول عليه الصلاة والسلام من قهر الرجال واليكم حديثه في ذلك " قهر الرجال "
وأخرج أبو داوود في سننه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : دخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد يوماً ورأى رجل من الأنصار يقال له أبو أمامه فقال له – أي النبي صلى الله عليه وسلم – قال لأبي أمامه : ( مالي أراك جالس في المسجد في غير وقت صلاة ) فقال : يا رسول الله همٌ نزل بي وديون لزمتني ، فقال عليه الصلاة والسلام : ( ألا أعلمك كلمات إن قلتها أذهب الله همّك ) قال قلت : بلى يا رسول الله قال : ( قل إذا أصبحت وإذا أمسيت ( اللهم إني أعوذ بك من الهّم والغم ومن العجز والكسل وأعوذ بك من الجبن والبخل وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال (
من الحديثين يظهر أنه صلى الله عليه وسلم تعوذ وأمر بالتعوذ من قهر الرجال .

فما قهر الرجال ؟
قهر الرجال في قول كثير من العلماء : ما يصيب الإنسان من قهر وهم وغم بغلبة انتصر عليه بها وهو يعلم أنه على الحق وخصمه على الباطل .

وأردت بهذه العظة أن أذكر إخواني أن الحياة الدنيا ميدان تنافس فربما غلبت المطامع الدنيوية على العبد فكان سبباً في قهر أخوانه حتى يصل إلى مبتغاه وأمله فيجعل الطريق إلى مبتغاه وأمله أن يمضي على أكتاف الناس وهذا خلاف اليقين بالله جل وعلا والإيمان بقضائه وقدره وفيه ما فيه من معارضه قول النبي صلى الله عليه وسلم .

هذه كلمات وفاء سأقدمها لرجال تم قهرهم لسرقة قضيتهم وإنكارهم من حق العيش والحياة الكريمة في أوطانهم ، هؤلاء الرجال يستحقون أن يسلط الضوء على قضيتهم وهم رجال جنوبيون في المنفى ، ليس لذنب اقترفوه ولكن لأنهم قالوها قبل 17 عاما مضت ( الشعب يريد تحرير الجنوب ) ، رجال من عدن السباقة دائما لمعرفة الداء والدواء ، كان الرد على مطالبهم هو حرمانهم من العيش على أرض اليمن بكل مدنه ، تم نفيهم ويا ليتهم تركوهم يعيشوا بسلام في أرض التشرد وإنما مازالوا مطاردين ومهددين بالاغتيال أو بتقييد أسمائهم كمجرمين مطلوبين دوليا ، فأي جرم اقترفوه عندما رأوا عدن تُنهب وتُسرق خلال أربع سنوات فقط ، أربع سنوات تم استنزاف عدن من كل جانب وسرقة ما بظاهرها وباطنها ، ثار الغيورين على عدن واللذين لم يتم إسكاتهم بحفنة من المال ، رجال غادروكِ يا عدن بأجسادهم ولكن أرواحهم مازالت ترفرف في سماكي فهم جُندك اللذين لم يجف قلمهم للمطالبة بتحريرك ، تحية وفاء وإجلال وإكبار لكل شريف عاش تحت مسمى الغريب في وطن ليس وطنه ، تحية حب وتقدير لكم أيها الأبطال فأنتم ذلك الجندي المجهول الذي كان وراء هذه الثورة المباركة ونحن نعلم جيدا بأنكم مشتاقين لعدن برغم تغيير ملامحها وتحويلها الى امرأة مثقله بالهموم ، ولكم ان تتخيلوا فرحة لقائها بكم ، تخيلوا معي كيف ستحضنكم وتبكي دموع الفرح لكثرة اشتياقها لوقع أقدامكم على أرضها ، عدن تنتظركم بشوق ولهفة فشدوا الهمة قد صار مسموح لكم أن تحلموا بليلة العودة أليها ، شدوا الهمة وابدءوا برسم مستقبل واعد يمحي عنكم كل سنوات الغربة ، عدن انتظرتكم مثلما انتظرتموها ، فأنتم الشريان الذي سيعيد إليها الحياة ، أيها الجنوبيون في المنفى هذا زمنكم الذهبي فأعدوا العدة ونحن بانتظاركم . ولكم مني أجمل تحية وأرق سلام .

بقلم الكاتبة والصحفية / اماني بيحاني

[ابو محمود]

[فقط الأعضاء المسجلين والمفعلين يمكنهم رؤية الوصلات . إضغط هنا للتسجيل]